توفي الكاتب والصحافي والسياسي اللبناني (غسان تويني) مؤسس صحيفة النهار البيروتية، عن عمر ناهز الـ 86 عاما. ويعرف غسان تويني بأنه "عملاق الصحافة العربية" و"عميد الصحافة اللبنانية"، حيث بدأ عمله الصحفي وهو في بداية العشرينيات في جريدة «النهار» التي أسسها والده عام 1933.
وما لبث أن دخل تويني المجال السياسي ودخل البرلمان اللبناني عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، ثم شغل مناصب وزارية مهمة، وكان مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في أوقات عصيبة تخللها اجتياحان إسرائيليان.
تميزت حياته بمآس عدة، حتى وُصف بأن قدره يشبه «أبطال التراجيديا الإغريقية»، فقد توفيت ابنته نايلة وهي في السابعة بمرض السرطان، وما لبثت أن لحقت بها زوجته الشاعرة ناديا تويني بالمرض نفسه.
بعد ذلك بسنوات، قضى نجله مكرم في حادث سيارة في فرنسا، وقُتل نجله الصحافي والسياسي جبران تويني في عملية تفجير استهدفته في ديسمبر 2005، وقبل ثلاث سنوات، توقف غسان تويني عن كتابة افتتاحيته في جريدة «النهار» بسبب العجز والمرض.
كتب الشاعر (أنسي الحاج) في جريدة الاخبار اللبنانية عنه:
غـسّــــان تـويـنــــي
أنسي الحاج
قلّما برّز صحافي بوصفه صحافيّاً مثلما برّز غسان تويني. هو الصحافي وأكثر. كأنه السقف. له كتب، بل له مجموعة شعر بالفرنسيّة، وله ماضٍ كاستاذ جامعي، وعمل نائباً ووزيراً وسفيراً، لكن حضوره كان حضور الصحافي وحضوره الصحافي كان مشحوناً بالسياسة والثقافة والعلاقات الواسعة ومغناطيس مهيب يجعلك تحسبه، كما وصفه مرة أحمد بيضون، أطول ممّا هو.
لا الصحافة الميكانيكيّة (تحرير أخبار، تعبئة فراغات الخ...) بل صحافة الخَلْق. كان شهيراً بعناوينه، وهي في الحدّ الوسط بين الكلاسيكي والجديد، وفي كليهما يستحث الدماغ، وفي السنين الاخيرة اضيف القلق والهلع الى استفزازاته السياسيّة والفكريّة، فقد بدأ يفقد الامل بكل شيء.
قبل نحو سنتين أو ثلاث تحادثنا بالهاتف، انا في «الأخبار» وهو في مستشفى نقل اليه في حال حرجة. قال لي «لازم شوفك، ضروري». قلت مازحاً «لا تَخَف، محمود (زيباوي) طمأنني أنك ستقفز فوق المئة». قال: «لا لا، أنا قلقان على «النهار». لازم شوفك». قلت: «حاضر». قال «جدّ، لا تهرب، بدّي شوفك».
لم أره. بعد انفصالي عن «النهار» في آخر ايلول 2003 ابتعدت عنها قلباً وقالباً. الا مرّة، جمعتنا صديقة مشتركة في دارتها لنتصالح فتعاركنا أشدّ من قبل. ولم أعد أراه.
كان لي أباً ومعلّماً وراعياً. لم يدلّلني أحد كما دلّلني واحاطني بافضل انواع الحرص والمحبّة. في بداياتي هشّلتُ عنه جميع اصحابه من الادباء والشعراء بمواقفي السلبية منهم وفي النهايات ظللت اخادعه اثنتي عشرة سنة بأني، نزولاً على إلحاحه، سأبدأ «غداً» بكتابة الافتتاحية. ولم اكتبها.
■ ■ ■
كان ميشال ابو جوده يقول: «حيث يتولّى الامر غسان فالمكان يصبح حكومة». كان استاذاً في صحافي وصحافياً في استاذ، ولولاه لما اتيحت فرصة التجوهر لاولئك الشباب الذين تسلّموا في ما بعد مقدرات كبرى الصحف العربية. ولولا قليل لقلنا صانع رؤساء، مشاركاً في الطبخة أو مستشاراً غير مرئي. كان شغوفاً بالسلطة واستعاض بـ» النهار» عن الدولة فجعل الجريدة جمهورية وهو رئيسها. كتائبي سابق قومي سابق (ودائم؟) ولبناني ليبرالي اميركي الهوى انكليزي الاناقة فرنسي الثقافة عربي الكتابة على منوال ذاته. لكنّ أفتك اسلحته كان صوته. صوت جَهْوري عميق يتهدّج عند اللزوم ويرتفع بمهابة نسر فيُسكِت ويهدّئ ويخدّر، فيما يروح يستمتع بتأثيره. كان يستهويه استعمال هذا السلاح وكان يحب أن يسمع صوته، لكّنه كان يعرف أن يصغي ويخوض النقاش بما يُعجز، مستعيناً أيضاً بنظراته الحادة، الاشد حدّة في الغضب من نظرات النسر والالطف في الملاينة من عيني أب متوّدد.
■ ■ ■
لا يكلّف الله نفساً الا وسْعها.
الفرق بين أيّوب وغسّان تويني ان أيّوب اشتكى وملأ الدنيا حتّى انزل بالله شعور الذنب. خسر غسان ابنته البكر ثم زوجته ناديا ثم ابنه مكرم وأخيراً جبران الشهيد ولم يبق أحد. ظلّ وحده شجرة عارية في صحراء.
كنت أعزّي نزار قبّاني بفقده ابنه توفيق في ريعان الصبا، ولما فقد زوجته بلقيس قال لي: «هذه ضريبة شهرتي».
فيروز خسرت امّها بعد زواجها بقليل ورزقت بعد زياد بابنها «هلي» الذي يعيش منذ الطفولة مقعداً فاقد النطق، ثم خسرت عاصي وبعده ابنتهما ليال.
هل الجبابرة جبابرة لانهم يُجرَّبون هكذا أم هم يُجرَّبون هكذا لانهم جبابرة؟ هل تجري في عروقهم دماء الانا الفولاذيّة فيستنزلون الصواعق؟
هل هي العين؟
يعطي الناس محبتهم بعين ويسحبونها بعين؟
أين هي العين؟
■ ■ ■
امضيت سبعاً واربعين سنة في «النهار» بين سوق الطويلة وشارع الحمرا. من الطفر الى البحبوحة، من النخبويّة المحدودة الى الانتشار، تنقلت في علاقتي بـ «الاستاذ غسّان» من المحاذرة والتهيّب الى الصداقة التي لم استطع رغم حميميتها التغلّب خلالها على مناداته بالاستاذ.
كان بيننا، من جهتي على الاقلّ، ذلك الجدار الشفّاف الذي تحار في تسميته بين الاحترام والتهذيب والحرص على كلفة سيكلّف رفعُها اكثر مما يكلّف الحفاظ عليها. وكان، رغم حذره وكبريائه، لا يني يعطيني البرهان تلو البرهان على ثقته ومحبّته، ولم يتدّخل معي ولا مرّة لجماً أو انتقاداً أو بأي نوع من انواع الوصاية والتوجيه. وقمّة تلك الثقة «اعطائي» المكان الابرز في الصحيفة لانشر فيه مقالي، هو المكان الذي كان مُفْرداً له وحده ولابيه من قبل.
لم اعرف مدى محبته الا بعد التنائي. التنائي يُصفّي الرؤية. يوم طلب منّي مطلع التسعينات ترؤس تحرير «النهار» بعد توقف صدور «النهار العربي والدولي» اعتذرتُ متذّرعاً بنفوري من المسؤوليات الجهرية المباشرة وتفضيلي الظلّ.
أصرّ. وما ادراك ما اصرار الأسد. ازددت تهرّباً رغم حاجتي الى العمل، اذ كان مدخولي مقتصراً على ما اتقاضاه من مجلة «الناقد» الادبية الشهريّة لقاء «خواتم» من صفحتين أو ثلاث. قال لي رياض الريّس صاخباً كعادته: «ما بترضى تعمل رئيس تحرير «النهار» بعهد غسّان؟ يعني بعهد مين بدّك ترضى!؟».
وهكذا كان.
ازدادت شهيّة غسّان تويني لتطوير الجريدة وتزخيمها وازددتُ تورّطاً في العمل بوجوده داعماً راعياً. كان مبيع «الديار» قد أصبح في الطليعة ومبيع «النهار» متراجعاً بصورة مخيفة. اعدنا الى «النهار» صفحة القضايا واستعنّا بكتّاب وصحافيين اصبحوا في ما بعد عماد الجريدة. وبُعث «الملحق» الى الوجود مع الياس خوري وعبّاس بيضون وبسّام حجّار وبلال خبيز ومحمد سويد وفي ما بعد عقل العويط ومحمود زيباوي وسائر الزملاء، وحرّرت امل مكارم ملحق «حقوق الناس»، وسهر اميل منعم بذوقه المرهف على نهوض الشكل، واقفاً عند حدود معيّنة في «النهار» اليوميّة، نزولاً عند حرص غسان تويني على الايقاع القديم في التبويب. وكان هاجسه في ذلك ان قارئ «النهار» المعتاد تنظيمها وزواياها يضيع اذا تخلخل المظهر.
ولا يزال بنا حَرْقََة من جمود تلك الحدود. ويقيني انه لو اتيحت لاميل منعم حرّية نفض شكل اليوميّة لاستكملت ريادتها.
■ ■ ■
كَرِه تويني العسكر والعسكرة وكان لا يفوّت فرصة الا «يعتذر» عن كون شقيقه فؤاد ضابطاً في الجيش. قرّبه اليه فؤاد شهاب مطلع عهده واستعان به وبابي لابتكار شعارات ما بعد حوادث 1958 وفحواها لمّ الشمل واستنهاض الوحدة الوطنية والولاء لفكرة الدولة. لكن الفرقة لم تلبث ان وقعت. ليس فقط لتأصّل الشعور المدني في تويني بل لتحسسه من سلطويّة لا تكتفي بالهالة السياسيّة بل تضيف اليها «الوهرة» العسكريّة. الرئيس الأمير اللواء. كان في غسّان تويني شاب «نمرود» يسمّونه بالدارج «شخصيّة» تستهويه السلطة عند الآخر ولكن في نطاق نرجسيّته هو. وعندما ازداد تدخل «المكتب الثاني» في الحياة السياسيّة (وأحياناً الشخصيّة) اعلنها غسّان وصديقه ريمون اده حرباً شعواء على الشهابيّة، ووصل الامر بعميد الكتلة الوطنية إلى حدّ التصريح في الستّينات بأن ثلاثة اخطار تهدد لبنان هي اسرائيل والشيوعيّة والشهابيّة.
وواجهت «النهار» سطوة الاستخبارات بشجاعة نادرة وجرأة هي في اساس البنيان الروحي لهذه الجريدة التي كانت دوماً في الظروف الصعبة تؤدّي دورها العريق كمعقل للحريّة يوم تَعزّ الحريّة وتظلم السماء. حتى أخصامها غالباً ما لم يجدوا، حين دارت عليهم الدوائر، غير صفحاتها ملجأ.
■ ■ ■
تمتّع غسّان تويني بصفات الدهاء كما تمتّع بصفات الفروسيّة. كان رغم حذره مقداماً ورغم عقدة جبينه ضحوكاً ورغم كثرة أصدقائه وحيداً. لقد نقل رفات جميع افراد اسرته الى حديقة قصره في بيت مري وكان لا ينام قبل ان يتجوّل بين اضرحتهم مخاطباً أياهم فرداً فرداً. هذا الرجل الذي رجّف السلاطين كان ايضاً يبكي.
■ ■ ■
الآن لحق بهم. ناديا ونايلة وجبران ومكرم.
غياب كغيابه دويٌّ من نوع آخر.
فراغ كفراغه فضيحة.
«النهار» لا تتكرّر وغسّان تويني دنيا قائمة بذاتها، دنيا تتّسع لدنيا.
كان كلّ ما يملكه يصبح مشتهى للآخرين وكلّ ما يفعله نهجاً برسم التقليد.
لم يرحمه الرحمن في مرضه. آخرته انتقام من بدايته.
... العين.